CMC ـ غرفة أخبار الجندر ـ تسنيم قاسم :

“حين توفي والدي قبل نحو 26 سنة في مقلعٍ للحجارة قرب منزلنا الذي بناه قبيل وفاته ولم يبت فيه ليلة واحدة، لم أكن قد تزوجت. لم يكن يهمني أيضًا في ذلك الوقت ولا بعده بسنوات أمر التركة التي كانت مشتركة بين والدي وعمي، ثم جاء الوقت الذي أصبحت فيه فاقدة القدرة على أخذ حقّي، من دون أن أكون مُجبَرةً على التطواف في المحاكم”.

بنبرةٍ متهدّجة، تسرد ص. ل. (47 عامًا)، تفاصيل حرمان أخويها لها من الميراث، جزاءَ رفضها الزواجَ من أحد أقربائها في إطار العائلة، وإصرارها على الزواج بشابٍ لا تجمعه بعائلتها قرابة ولا نسب، الأمر الذي تراه عائلتها -الميسورة نسبيًا- تمرّدًا وذنبا عقوبتُه إسقاط حقّها في الميراث.

تتابع السيدة الأربعينية حديثها لـ”حَجَّة 21″ قائلة: “لم يُفتح موضوع القسمة إلا بعد أربع سنوات من وفاة والدي، كان عمري حينها 21 عامًا، وكان قد تقدَّم لخطبتي أبو عبد الرحمن (تقصد زوجها) بعد عودته من العراق في أواخر الثمانينيات فيمن عاد من العسكريين الذين شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية إلى جانب العراق. ولم توافق عائلتي على زواجنا إلا لأنه لم يكن في أولاد عمومتي شخص في سنّ الزواج، إلى جانب رفضي أن أكون زوجةً ثانية لمن كان منهم متزوج أصلا، لذا كان عليّ أن أختار بين أحد أمرين: القبول بلقب العانس أو إسقاط حقي في الميراث، فاخترت الأخير”.

لا تفكر السيدة ص. ل. في اللجوء إلى القضاء من أجل استعادة ميراثها الذي استقر بأيدي أخويها، لرغبتها في النأي عن المشاكل، وحفاظًا على سمعة العائلة، وهو الرأي نفسه الذي يتبناه زوجها، على الرغم من أمل كليهما في أن يستيقظ ضمير أخويها يوما ما، كما توضح لـ”حَجّة 21″.

ليست هذه الحالة سوى حكاية من مئات الحكايات لنساء كُثر تعرضن للحرمان مِن حقّهن في الميراث، أو أُجبرن على الزواج من قرابتهن عنوة، خوفا من ذهاب النصيب الشرعي من ميراث الفتاة إلى ورثة من خارج العائلة، وهم مَن يُطلق عليهم في الدارجة بـ”المُخْرَجِيّين” (المفرد: مُخْرَجي)، وهم الذين لا تجمعهم بأسرة الفتاة رابطة نسب.

حرمان متعدّد الوجوه

لا يتوقّف الأثر السلبي للظاهرة عند هذا الحد، بل يتعدّى غالبا إلى إجبار الفتاة على الزواج بأحد أقاربها من دون رضى أحدهما أو كليهما، أو قد تمنع الفتاة من الزواج نهائيًا لأسباب تتعلق بالميراث، وهو ما تؤكده الصحفية والناشطة بشرى الغيلي في حديث لـ”حجَّة21″ قائلة: “رغم أن ديننا الإسلامي كفل للمرأة حقّها في الميراث، تعاني كثيرات من هذه الظاهرة، فهناك من يحرمهن من هذا الحق، ولا يقتصر الأمر على الحرمان من تزويجها من خارج العائلة، بل قد يصل إلى حرمانها من الزواج نهائيا”.

تضيف الغيلي: “ذات مرة قمتُ باستطلاع صحفي ووجدت ما يندى له الجبين، فخلف الجدران قصص وغُصص، وإحدى تلك القصص لفتاة حرمها والدها من الزواج نهائيا، لا من العائلة ولا من خارجها، لأنه صاحب أموال وشركات وليس لديه أبناء ذكور، ورغم أن الفتاة جامعية وتدري أن تصرفه حرمان من حقّ أساسي من الحقوق الإنسانية، تقول مُسلّمة: مهما حصل، فهذا أبي ولا يمكنني معارضته”.

وترى الغيلي أنه من المؤسف والمعيب أن تظلّ مثل هذه الاختلالات موجودة في المجتمع اليمني، وأن تظلّ المرأة محرومة من حقوقها إلى أن تموت، مؤكّدة أن الحلّ يكمن في تفعيل القوانين واللوائح التي كفلت حقوق النساء في المواريث وإقامة حملات توعوية تستهدف النساء خصوصًا في المجتمعات الريفية المنغلقة، حتى تعرف المرأة حقوقها التي كفلها الشرع والقانون، خصوصًا أن هناك نساء في ضائقة شديدة من العيش، رغم أن لديهن ما يكفيهن من الميراث، لكنه للأسف بيد ذكور من الأقارب تركوهن عرضةً للحاجة والعوز، حدّ تعبيرها.

سياج اجتماعي شائك

تجدر الإشارة إلى أن أغلب الحالات التي تقوم فيها بعض العائلات بحرمان الفتاة المتزوجة من خارج الأسرة من الميراث، يكون الميراث غالبا من الأرض أو الممتلكات العقارية، التي تتخذ عائلات موقفًا رافضا من مشاركتها مع من يُنظر إليهم بوصفهم “أغرابا”، حتى إن كان هؤلاء “الأغراب” من أولاد ابنتهم المتزوجة من رجل غير ذي قرابة.

“عليّ س.” صيدلي من محافظة حجة، يُطِلُّ على عِقده الثالث بقلبٍ محطّم، يذكر في حديث لـ”حجة21″ أنه تقدم لخطبة فتاة من عائلة ميسورة، كان الشابان يضمر أحدهما للآخر كثيرًا من الحب، لكنه وجد نفسه عديم الحيلة أمام ممانعة أهلها عن القبول به لدواعٍ لها علاقة بـ”متلازمة الخوف على الميراث” كما يصفها تهكّمًا.

يوضّح عليّ وعليه علامات التأثر: “بصراحة لم يذكروا أمر الميراث إطلاقًا، لكنهم سوّغوا رفضهم لي بأسباب أخرى، وأنا أعلم جيدًا أنهم يزوجون بناتهم داخل العائلة فقط، ومع ذلك كان يجب أن أعمل ما بوسعي لأجل مَن أحبّ، ولسوء الحظ لم تكن النتيجة إلا وجع القلب”.

القانون مسافة من المجازفة

في القانون اليمني تُعدّ ظاهرة حرمان المرأة مِن الميراث مخالفة لنصوصه المستندة إلى نصوص التشريع الإسلامي الذي فصل جليًا في أحكام الميراث، لذا من البديهي أن يكون منصفًا للمرأة في أمورٍ مثل هذه، لكن الإشكال في امتناع الغالبية العظمى ممن وقعن ضحية لهذه التجاوزات، عن اللجوء إلى القضاء، لاعتبارات تتعلق بحساسية الموضوع وحذرا من الوقوع في ما يخدش سمعة العائلة، كما هو راسخ في الأعراف الاجتماعية باليمن، وهو ما يُفضي بكثير من النساء إلى التزام الصمت الذي يترتب عليه ضياع حقّهن القانوني والشرعي.

في السياق، يؤكّد المحامي والباحث القانوني توفيق عبد الله راشد الضبيبي في حديثٍ لـ”حَجّة 21″ بالقول: “لا شكّ أن مثل هذه الظواهر السلبية تُعدّ ظلمًا بيّنا في حقّ المرأة، ومن التجاوزات المُنكرة شرعًا وقانونًا، كما أنها تتعارض مع القانون اليمني، فإذا كان التشريع قد أعطى المرأة -سواءً أكانت بكرًا أم ثيبًا- حق قبول أو رفض المتقدّم للزواج منها، وأبطل اشتراط ولي الأمر أخذَ مهر وليته، فما بالك بمن يقوم بحرمانهن من ميراثهن الشرعي مقابل إمضاء زواج الفتاة؟! لذا من الواجب أن يُعاقب من يترخّص في ذلك ويُعزَّر قانونًا”.

يضيف الضبيبي: “من حق المرأة التي وقع عليها مثل هذا الظلم، أن تلجأ إلى القانون، لاسترداد ما انتُزع منها على أساسٍ باطل. ذلك أن اشتراط ولي الأمر على الفتاة إسقاط حقها الشرعي في الميراث، في حالة الزواج برجل من خارج العائلة، شرط باطل، ويخالف مقتضى العقد، وهو ما عليه الاتفاق بإجماع فقهاء القانون والشريعة، لكون هذا الشرط دخلت عليه شروط مخالِفة لمقتضاه، الأمر الذي يجعل التصرف والشرط باطلين، بل منعدمان، ولا يترتب عليهما أي أثر قانوني من أي وجه”.

 

 * تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر الذي ينفذه مركز الإعلام الثقافي CMC.. وتم نشر المادة على منصة حجَّـة 21 Hajjah:

https://www.facebook.com/Hajjah21/photos/a.111196110594340/312367867143829