CMC ـ غرفة أخبار الجندر:
تحقيق وتصوير – أسماء البزاز:

لا شيء أقسى من الحروب ولا وجعٍ أعتى من النزوح، وما أشده ثقلاً وإيلاماً على المرأة اليمنية التي تتجرع اليوم ويلات الحروب وضراوة التهجير القسري بحثاً عن الأمان الحياتي لها ولأسرتها.

حكايات موت وتعذيب، وقصص تشريدٍ وامتهان، تعكس مرارة المعاناة، وتداعياتها النفسية على النازحات، والتي لا تمحو آثارها سلة المنظمات الغذائية ولا خيمهم الإغاثية، بل توجب وقفة جادة من مختلف الجهات المعنية في البلاد للحد من آثارها ومعالجتها بحلول جذرية.

أم منار النازحة من محافظة تعز إلى محافظة صنعاء عام 2018م للبحث عن ملجأ آمن يحميها ويحمي أسرتها من جور الحرب، تعيش أزمة نفسية وإنسانية مؤلمة.

لا تزال تتذكر بداية القصة وترويها بغصة تخنقها عبرات الألم ومرارة الموت حينما انهالت عليها وعلى أطفالها أعقاب البنادق ضرباً مبرحاً من عصابة مسلحة هاجمت منزلها.
تقول :« صرخات أطفالي حينها، تدوي في مخيلتي ليلاً ونهاراً، ولا تفارقني في صحو أو نوم».

تضيف: « شدة الضرب، ألقت بجسدي الضعيف على الأرض مغشياً عليّ، وأخذتني في غيبوبة طويلة دامت ثلاثة أشهر، تم خلالها نقلي إلى مستشفى قريب من المنزل، تسببت الحرب في أن يكون غير مؤهل لاستقبال الحالات المرضية، لذلك، نقلت إلى صنعاء، ومعي أطفالي، ودموعهم، وأنينهم، برفقة زوجي ومجموعة من النازحين».

 

٤ ملايين نازح تمثل النساء الشريحة الأكثر تضررا بنسبة 60%

تتوقف برهة، تستلقط أنفاسها بصعوبة، وتعاود الحديث «صحوت من الغيبوبة في أحد مستشفيات صنعاء، وكانت النظرة الأولى نحو زوجي الذي بجواري، لكن السؤال الأول كان عن ابنتي منار، الذي اتجه إليها بعض المسلحين للاعتداء عليها بالضرب، قبل أن يغمى عليّ،

د. عبده الشليلي

أجابني زوجي: الحمد لله فدوى ومحمد بخير، وفاضت عيناه، وكانت دموعه إجابة كافية؛ أدركت خلالها أن منار قد اختطفها الموت على أيادي هذه العصابة، وتمنيت حينها أني لم أفق، وأن الموت أخذني بدلاً عن ابنتي التي كانت تتطلع لحياة كريمة مليئة بالإنجاز والإبداع والنجاح».

وتشير أم منار إلى أنها منذ تلك الحادثة تعيش في اكتئاب حاد وعزلة مجتمعية ينتابها الخوف والرعب من طرق بابٍ أو اتصال، أو سماع دوي الأعيرة النارية، أو مشاهدة السلاح، لا تفارقها الكوابيس، والحال ذاته عند ابنتها فدوى (9 أعوام) التي عزفت عن مواصلة تعليمها وعن اللعب مع قريناتها أو الخروج حتى للمنتزهات وفضلت الوحدة والعزلة، رغم محاولات والدها المتكررة وعرضها على الأطباء النفسيين، ولكن دون جدوى.

ضريبة الحياة

قصة أخرى تدور أحداثها في مدينة أخرى، أفراح حمدي (39 عاماً) كانت حياتها مليئة بالفرح والحب مع زوجها “فتيني” وأولادها سعيد ومختار ومحمد، في منطقة التحيتا بمحافظة الحديدة، ولكن الحرب لا تعرف الحب ولا الإنسانية، لتغدو منطقة التحيتا مسرحاً للصراع لوقوعها في خط التماس المسلح وليتكبد هؤلاء الأبرياء ضريبة البحث عن العيش الكريم.

تقول أفراح: « أظهرت الحياة لنا وجهها المتوحش؛ ولم نجد لنا موطئاً في المنطقة التي ولدنا وتربينا وعشنا فيها ربيع حياتنا، قررنا النزوح إلى أي منطقة نجد فيها مأمنٍ لحياتنا فلم نجد أمامنا إلا خيارين، النزوح إلى صنعاء التي تكتض بالنازحين من مختلف المحافظات، أو مأرب التي هي الأخرى مكتضة بمئات الآلاف من النازحين».

وتابعت: «قررنا النزوح لمحافظة مأرب، لوجود بعض الأقارب فيها وفي طريق نزوحنا كانت القذائف والأعيرة النارية من كل صوب، ولكن زوجي قرر مواصلة الطريق لأن الحرب تزداد وتيرتها يوماً تلو آخر وقد تُحاصر المنطقة ونمنع من الخروج ونرضى بقدر الفقر والموت».

وأضافت: «تابعنا المسير، وتبعتنا قذيفة استهدفت منزل على طريق نزوحنا، تسببت في انقلاب السيارة بمن فيها، صحونا من شدة الصدمة، لنضع أيادينا على أجسادنا باحثين عن أي رضوض أو أكسار خلفها الحادث، اتجهت صوب زوجي وهو في حالة إغماء، يتمتم بكلمات لم أفهمها، وحاولت سحب نفسي وأطفالي إلى خارج السيارة، ثم سحبت زوجي، وقمت برشه بالماء علّه يستيقظ، لكن دون جدوى، حاولت رفعه، فشاهدت الدماء تسيل من خلف رأسه، وبدأ بلفظ أنفاسه الأخيرة.. صرخت، وبكيت، واستجديته أن لا يتركنا في هذه الحياة القاسية، لكنه غادر الحياة، ويديه متشبثة بي بقوة، والموت متشبث به أقوى منا، وواصلنا المسير في سيارة أخرى مع جثة زوجي، تراودني أحلام صحوه البائسة، حتى وصلنا إلى أقاربنا في مأرب، وتم دفن زوجي، وتوفير غرفة أعيش فيها مع أطفالي، الذين فقدنا معاً معهم الحياة الحقيقية، وأصبحت حياتنا لا معنى لها».

وبحسب أقارب النازحة فإن أفراح لازالت تعاني إلى اليوم من وساوس قهرية شديدة يخيل لها أن زوجها لازال على قيد الحياة وأنه سافر وسيعود لا محالة.

من حالٍ إلى حال

ومن محافظة حجة التقينا النازحة “جميلة حيان”، التي نزحت هي وأسرتها إلى أمانة العاصمة بعد أن أصبح منزلهم بؤرة للاستهداف في منطقة قريبة من الخط الحدودي للحرب.

تقول جميلة: «فقدنا منزلنا ومزرعتنا التي كانت مصدر رزق لنا ولغيرنا ونزحنا للعاصمة لا نملك شيئاً، وبالكاد استطعنا أن نسكن في بيت للإيجار مكون من غرفتين ومطبخ».

وبينت حيان، أن هذا الواقع المعيشي المؤلم وفقدان مصدر رزقهم ومأواهم تسبب في عدد من المشاكل النفسية في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، والإنسانية، وفاقم ذلك، انفصال والدها عن والدتها بسبب مشقة البحث عن لقمة العيش، الذي فضلت الأم حياله الكفاح والمعاناة، والاعتماد على ذاتها، الأمر الذي ضاعف المعاناة والتراكمات النفسية لها ولأخواتها.

تختتم حديثها قائلة: « كم أتمنى وجود مراكز أو جمعيات تُعنى بالدعم النفسي للنازحين والنازحات قبل الدعم المادي، لعل ذلك يساعدنا في نسيان وجع الحرب وكوابيس رؤية الأشلاء والبيوت المدمرة وأزيز الطائرات والصواريخ».

٤ ملايين نازح

وكانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين قدرت عدد النازحين داخلياً في اليمن عام 2019م بحوالي 4 ملايين شخص.. وفقاً لتقريرها المنشور في موقعها الرسمي.

فيما أشارت منظمة الهجرة الدولية إلى أن أكثر من 166 ألف يمني نزحوا جراء الحرب ولأسباب أخرى منذ مطلع العام الماضي حتى نهاية نوفمبر من ذات العام.

وحول تداعيات الحرب والنزوح يبين تقرير لمنظمة الصحة العالمية أن من بين الأشخاص الذين شهدوا حروباً أو صراعات أخرى خلال العشر سنوات الماضية، يرجّح أن يصاب واحد من كل 11 بنسبة (9%) باضطرابات نفسية معتدلة أو شديدة.

وبين تقرير المنظمة المنشور في موقعها الرسمي بتاريخ 11 حزيران 2019م أن التقديرات تشير إلى أن شخصاً واحداً من كل خمسة بنسبة (22%) ممن يعيشون في منطقة تشهد صراعات يصاب بالاكتئاب، أو القلق، أو اضطراب الكرب التالي للرضح، أو الاضطراب الثنائي القطب، أو الفُصام.

وأشار التقرير إلى أن الاكتئاب يشيع عادةً بين النساء أكثر من الرجال، ويصبح الاكتئاب والقلق أكثر شيوعاً مع تقدّم العمر، وأن الأشخاص المصابون باضطرابات نفسية شديدة معرّضون للخطر بالأخصّ أثناء حالات الطوارئ ويحتاجون إلى إتاحة الرعاية الصحية والنفسية والاحتياجات الأساسية الأخرى.

الجهات المعنية

من جانبه أوضح وكيل أمانة العاصمة للشؤون الإنسانية عبد الوهاب شرف الدين، أن أكثر من 350 ألف أسرة نازحة في الأمانة تحتاج إلى دعم، ومؤشرات الارتفاع مستمرة بفعل الحرب.

عبدالوهاب شرف الدين

وأشار شرف الدين إلى غياب التنسيق الكامل، وقلة الدعم والمسح الميداني، وعدم التزام عدد من المنظمات الدولية بالخطة الوطنية للاحتياج، الأمر الذي فاقم معاناة النازحين المعيشية والنفسية.

وعن معاناة النازحات النفسية قال شرف الدين: «في الحقيقة الوضع حرج جداً، وكلما استمرت الحرب استمر الوضع تدهوراً ، وكلما حاولنا التدخل تظهر إشكاليات جديدة، وتعتبر المنظمات الدولية العاملة هي رافداً من الروافد الرئيسية لسد الفجوة، وللأسف لم تقم بواجبها كما ينبغي».

وقال شرف الدين: «نحن الآن في عملنا نركز على توفير الغذاء والاصحاح البيئي والصحة والمأوى والأمن الغذائي، وهذه هي الاحتياجات الرئيسية للنازحات والنازحين بشكل عام، وأيضاً نركز على برامج التدريب والتأهيل النفسي.

ويبين أن من المشاكل أيضاً الازدواجية في العمل الإنساني، وغياب التنسيق والتشبيك بين الجهات المحلية حكومية أو قطاع خاص إذ تقوم كل جهة بنفس المهام بشكل مستقل وبدون تنسيق.

وبحسب شرف الدين، فإن إجمالي عدد النازحين الذي قدموا إلى أمانة العاصمة من محافظات يمنية أخرى خلال الثلاث السنوات الأولى من الحرب يصل عددهم إلى 326 ألف و560 نازح ونازحة، لافتاً إلى أن أكثر عمليات النزوح هي من محافظات صعدة، تعز، والحديدة، وأعداداً كبيرة من المحافظات الجنوبية.

 

أبعاد نفسية

الدكتور عبده الشليلي (اختصاصي علم نفس واجتماع) أوضح أن المرأة والطفل في الحروب هم الشريحة الأكثر تضرراً نظراً لحساسيتهم وضعفهم البنيوي والنفسي.

ويقول :«من آثار الحروب وتداعياتها النزوح والذي يعني الانتقال من مناطق الحرب إلى أماكن آمنة تحفظ للنازحين حياتهم من الدمار والموت، وخاصة المرأة التي تعاني ردة فعل قوية عند نزوحها وانتقالها إلى مكان آخر، وهناك آثاراً نفسية تصاحب عملية نزوح المرأة اليمنية نتيجة انتقالها لبيئة أخرى باختلاف المكان والزمان، وعيشها في مجتمع جديد لا تستطيع التكيف ببساطة مع بيئتها الجديدة، إذ أن المكان له تأثير نفسي على الفرد، وخصوصاً المرأة والذي يجلب لها في بداية الأمر الشعور بالقلق والاكتئاب والاغتراب النفسي عن بيتها وأسرتها، وصعوبة التأقلم، يصاحب تلك المشاعر الخوف من المجهول والمستقبل والحسرة على ما حل بها، وتعيش القلق اللا محدود على أطفالها لانتقالهم لمكان آخر خوفاً من تعرضهم لأي مكروه، يضاف إلى ذلك اضطرابات في النوم وكوابيس آثار الحرب المؤلمة».

وأشار إلى أن التداعيات النفسية تصيب المرأة النازحة بنسبة 60٪ .. مبيناً أن النازحة تفقد ثقتها بنفسها في مواصلة مشوارها التعليمي لفقدانها الأمان في حياتها.

ودعا الشليلي إلى ضرورة تكاتف الجهات الحكومية والمجتمعية للحد من هذه الآثار النفسية المدمرة من خلال دمج النازحة نفسياً واجتماعياً في المجتمع وإشعارها بأنها بين أهلها ووطنها وبث الأمان النفسي في واقعها، وأن كل هذه الآثار ستزول بزوال الحرب المدمرة.

ولفت إلى أهمية التوعية التي تعين النازحة على القيام بمسؤوليتها والتقبل بالوضع الجديد، والتكيف معه، وعدم الخوف من المستقبل، والتفاؤل بالخير، وإشغال نفسها بالالتحاق بالسلك التعليمي أو ممارسة هواياتها المفضلة وعدم استرجاع الماضي بآلامه بل جعله محطة وتجربة للبناء النفسي والتطوير الذاتي.

الدور المجتمعي

فيما أوضحت فايزة علي محسن الحمزي (حقوقية ومدربة نفسية ومجتمعية) أن ستة أعوام على التوالي في ظل الحرب تسببت في ازدياد عدد النازحين مما أدى إلى حدوث أضرار واضطرابات نفسية كبيرة، وأزمات نفسية بسبب الفقر والخوف والعنف.

وبينت الحمزي أن المرأة النازحة هي الأكثر تضرراً من هذه الأزمات النفسية والاجتماعية بسبب عدم الاستقرار النفسي والمعيشي، وعدم تقبلها للنزوح من مكان إلى آخر، والحرمان من الحياة الطبيعية الخاصة بها.. مؤكدة أهمية التوعية بتوفير الاحتياجات اللازمة للنازحة، والتكافل الاجتماعي مع هذه الفئة، بالإضافة إلى إقامة دورات تدريبية للنازحين وتأمين مصدر دخل آمن ودائم لهم بشكل ينعكس على نفسيتهم، كتوفير وتأمين المأوى الآمن والاحتياجات الغذائية والمرافق الصحية لضمان حياة مستقرة خالية من الأمراض.

 

ودعت الحمزي إلى الالتفات إلى الفتيات النازحات ودعمهن في مواصلة تعليمهن لحمايتهن من أي أضرار نفسية أو جسدية قد تحدث بسبب خروجهن القسري من منازلهن ومدارسهن، فضلاً عن تداعيات النزوح الذي يدفع البعض منهن إلى التشرد والتسول وتجوالهن بالشوارع، وقد يتعرضن للاعتداءات الجسدية والأمراض المعدية، مبينة ضرورة المشاركة المجتمعية من جميع الفئات والأطياف في تخفيف معاناة النازحين.

وحدات العلاج النفسي

المحامي حميد الحجيلي ممثل منظمة “بامرو” الدولية في اليمن، أ

حميد الحجيلي

شار بدوره إلى أن مشاهد الدماء والموت والدمار، وأصوات إطلاق النار والخوف أثناء الهروب، وفقد الأحبة، لها آثار سلبية عميقة في نفوس النازحين عامة وعلى النساء والأطفال خاصة ..

مبيناً أن ظروف حياة النزوح الجديدة هي بحد ذاتها بركان يغلي ويولّد حمماً لأمراض نفسية قاسية، وهذا يتطلب تشكيلاً فورياً لوحدات العلاج النفسي تقوم بمهمة المباشرة الفورية لمتابعة هذه الحالات قبل استفحالها، والتي ربما تحتاج لسنوات كثيرة حتى يتعافى المصاب منها.

 

* تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر الذي ينفذه مركز الإعلام الثقافي CMC.. وتم نشر المادة على موقع  المشاهد:

النازحات: صدمات نفسية في مناطق النزوح