CMC ـ غرفة أخبار الجندر ـ عبدالرزاق العزعزي:

وقفت أمام حقيبة نسائية مصنوعة يدويًا من الخيط.. “ليس من الصعب صناعتها” قالت لنفسها ثم واصلت طريقها إلى المنزل.

بعد شهرين، قامت ببيع أول حقيبة صنعتها بيديها، ووجدت أن ذاتها كانت مفقودة بين كومة من خيوط الكروشيه.

https://www.youtube.com/watch?v=3sxpopNcUik

بعد زفافها بعامين، غادرت نجلاء الحيدري اليمن إلى مصر رفقة زوجها الذي ذهب إلى هناك لاستكمال تحصيله العلمي، وجدت نفسها وحيدة في مجتمع جديد لطالما كانت تشاهد تفاصيل حياته من على شاشة منزلها في صنعاء، ذلك المكان الذي احتضن كل ذكرياتها وساهم بصناعة الفتاة الخجولة التي لا تعرف الكثير من الناس.

ذلك الخجل، زادها بُعدًا عن الآخرين، فمنذ كانت طالبة في الثانوية، كانت زميلاتها في المدرسة يبتعدن عنها خشية من ملامحها الحادة، لكن وجود والدتها العاملة في ذات المدرسة كأخصائية اجتماعية، كان دافعًا للفتيات أن يعقدن معها صداقة، و “لطالما كانت الصديقات هن السبب في تغيير حياتي” تقول نجلاء.

وحيدة، بلا أهل، وبلا صديقات، عاشت نجلاء أيامها الأولى في مصر، لم يمنحها الانترنت فرصة كافية للحديث مع أهلها في اليمن، فجودة الانترنت في اليمن لم تكن تساعدها كثيرًا، ولم يكن أمامها سوى أن تضع مولودًا لملء ذلك الفراغ الذي تعيشه، لكن الطفل الذي أتى، لم يمنحها الشعور بالذات “ظللت أشعر بأن كياني فارغ وأن وجودي لا قيمة له” تقول نجلاء.

تساءلت: “كيف يمكن لهذا الوضع أن يتغيّر” وظلّت الفتاة القادمة من اليمن إلى هنا، إلى شارع الجلاء بالمنصورة، الذي يحتضنها الآن، تفكّر بضرورة عمل شيء، لكنها لا تعرف ما هذا الشيء الذي يجب أن تفعله، في تلك الأثناء، كانت حقيبة يدوية مصنوعة يدويًا تتدلى أمام واجهة أحد المحلات لتجارية وتعرض نفسها لمشترٍ ينتشلها من هذه المساحة، وتتجول معه أرجاء المدينة.

    لم تعتد أن تبقى بلا نشاط يمنحها شعور بالرضى

كانت نجلاء هي الأخرى تبحث عن حل يُزيح عن كاهلها هموم مثقلة بالبحث عن ذاتها المفقودة، فمحاضرات التنمية البشرية لم تُجب عن اسئلتها الطويلة، ولم تمنحها الوصفة السريعة للانتصار على هذا الروتين القاتل. كل هذه المحاضرات كانت هراء، أو هكذا تعتقد نجلاء.

على وقع خطواتها وتفكيرها العميق، كانت أقدام أخرى تعبُر ذهابا وإيابًا وقد أرهقت ذلك الرصيف المهترئ والكائن في ممرٍ يدور حول حلقات غير مغلقة ومليئة بالحياة، التلوث السمعي الذي تحدثه أبواق السيارات وهمهمات العابرين؛ لم يخترق عزلة نجلاء فقد اعتادت عليه عمومًا، لكنها لم تعتد أن تبقى بلا نشاط يُشعرها بكينونتها كإنسانية مُنتجة في الحياة.

جاذبية الأشياء التي سمعت عنها في محاضرات التنمية البشرية، يبدو أنها حركّت اتجاهات نظرها وحدسها نحو تلك الحقيبة المتدلية هناك، “يا سلام” قالت نجلاء، وأضافت: “ما هذا السحر؟ هل هو الإيمان يا صغيرتي؟”

وبينما تحدُّث نجلاء نفسها كانت مشاعرها تميل وتتجه صوب الحقيبة وكانت الأفكار تتداخل وتتجسد في خيالها الخصب، “ماذا لو أصنع حقيبة مُشابهه ؟ قالت نجلاء التي تملك أساسًا خبرة سابقة في التعامل مع الخيط والإبر.

حقائب يدوية صنعتها نجلاء مع الماركة التجارية NANO HAND MADE

    الفائدة من استثمار الوقت

نجلاء تعلمت عام 2013 حياكة الصوف في معهد اللؤلؤة بصنعاء، الصورة خاصة، تعديل: Creative Design Services

في 2019 وقبل “جاذبية الشنطة” كانت جارة نجلاء تكمل أشهر الحمل الاخيرة، ولكونها قد أصبحت صديقتها في الغربة، فقد أرادت نجلاء أن تُقدّم لها هدية خاصة، منسوجة بيديها الناعمتين، فصنعت سريرًا من خيوط الصوف، ظلّت أسبوعين تعمل على إنجازه، لكن النهاية لم تكن متوقعة، فقد نال السرير اُعجاب الكثير، وحصدت معه على إشادات كثيرة.

لجأت نجلاء إلى يوتيوب لمعرفة مراحل صنع سرير من الصوف للرضع، كانت تبحث عن موديلات حديثة، وأشكال ابتكارية، وحصلت في النهاية على وصفة مكّنتها من صناعة قالب خاص كان له أثر جيد، شجّعها على خوض غمار تجربة بيع الأسرّة المصنوعة من الصوف إلى دائرة موسعة تتجاوز الأصدقاء، لكن مخاوفها كانت في إمكانية بيع الأسرّة، وكانت تتساءل: “هل سيكون مشروعا ناجحا؟”

 

سرير من الصوف أول الغيث   

تؤمن نجلاء بنصائح صديقاتها دومًا، وقد أشرن إليها بفتح مشروع لبيع الأسرّة، لكن دخول هذه المغامرة كان صعبًا عليها نظرًا لما يحتاجه صناعة السرير من وقت وجهد مضنٍ، وظلّ هذا السؤال شائكًا لديها حتى حانت اللحظة، تلك التي وقفت الحقيبة تنتظر وصول نجلاء لتجذبها إليها وتخبرها أنه بإمكانها انتاج حقائب يدوية وتبدأ بمشروعها الخاص الذي لن يُكلّفها الكثير.

    صنعت علامة تجارية خاصة بها والأمل: MADE IN YEMEN

في مركز تعليم حياكة الصوف، لم تكن هناك تقنيات تعليم مبتكرة، الدروس كانت متواضعة والانتاجات كذلك، لكن وجود يوتيوب علّم نجلاء كيف تصنع الحقائب اليدوية فصنعت الأولى لنفسها ثم سوّقت الفكرة لدى صديقاتها اللواتي أُعجبن بالحقيبة وموديلها الجديد وعملها المنظّم، ثم تحوّلن إلى مسوّقات جيدات لنجلاء.

 قامت بجهد متواضع لإعداد دراسة جدوى لمعرفة أسعار السوق وأماكن بيع المنتجات وأسعارها، ثم بدأت بمرحلة تحقيق الذات إذ صنعت علامة تجارية وبدأت في الترويج لمنتجاتها خارج إطار الصديقات، ولا تنتج الحقائب اليدوية فقط، بل أيضًا أسرّة وملابس للأطفال، وسلل منزلية، وبراويز صور، وتقول إنه بإمكانها أن تصنع أي شيء يُطلب منها، لكن الأكثر رواجًا وطلبًا هو الحقائب اليدوية لأن: “أشكالها جميلة وأصبحت مرغوبة بكثرة لدى الكثير من الفتيات” كما تقول.

وتقوم نجلاء بالتصرّف بالدخل المالي وفق مبدئين: الأول وضع رأس المال جانبًا لشراء المنتجات، والثاني صرفه لشراء متطلباتها والمنزل ومواجهة الطوارئ المحتملة.

 

 كيف واجهت نجلاء جائحة كورونا؟

أدى تفشّي جائحة كورونا للحد من تحركات نجلاء لشراء المستلزمات الخاصة بالعمل إذ تتواجد المحلات في الأسواق الشعبية التي تكتظ بالناس، لكن ذلك لم يشكّل عائقًا حيث تقوم بشراء الأدوات عبر الانترنيت، وعلى الرغم من ارتفاع سعرها إلا أنها تواصل العمل بوتيرة عالية وهمة مرتفعة، وقد أنتجت العديد من الحقائب اليدوية وأرسلت بعضًا منها إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإلى الامارات العربية المتحدة كما تعتزم ارسال كمية إلى اليمن، وكلها طلبات وصلت إليها بعد متابعة أعمالها على الانترنت.

صورة خاصة من نجلاء وهي تقوم بالحياكة

 

* تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر الذي ينفذه مركز الإعلام الثقافي CMC.. وتم نشر المادة على موقع  المنظمة الإلكترونية للإعلام الإنساني: