CMC ـ غرفة أخبار الجندر ـ تقرير: فاطمة باوزير :
في الوقت الذي أُدرج فيه الدان الحضرمي – وجه حضرموت الثقافي والفني– بوصفه أحدَ عناصر التراث اللامادي للإنسانية وفقًا لليونسكو وعُدّ معبرًا عن الهوية الثقافية الحضرمية، وفي ذات الرقعة الجغرافية المترامية الأطراف التي أخرجت عمالقة للفن الغنائي والموسيقي أمثال أبو بكر سالم بلفقيه وكرامة مرسال وحسين أبوبكر المحضار، برزت ملامح هوية ثقافية جديدة – متطرفة إلى حدّ ما- تتعارض مع تاريخٍ فنيٍّ عريقٍ عُرف به أهل حضرموت في جنوب الجزيرة العربية.
بدأت القصة قبل شهرين ونيّفٍ حين اجتاحت موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” حملة تنمّر شرسة ضد فتيات شاركن في دورة موسيقية نفّذها مكتب وزارة الثقافة بساحل حضرموت. لم تكن الدورة هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها دورات من هذا القبيل، ولكن الذي ميّزها هذه المرة أنها مختصة بــ “نون النسوة”؛ النساء الجزء المنسي دائمًا في مجتمع اليمن الكبير! 19 فتاة من مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت شُتمن ورُمين بأسوأ الألفاظ بعد انتشار صور للدورة التدريبية “تعليم قراءة النوتة الموسيقية والعزف على بعض الآلات الموسيقية”، مما جعل بعضهن ينسحب من الدورة على إثر ضغوطات مارسها عليهن المجتمع.
حاولنا التواصل مع كلّ الفتيات، لكننا لم ننجح لإغلاق أغلبهن هواتفهن ولرفض بعضهن الإدلاء بأي تصريح تجاه الحادثة، وقد يكون ذلك خوفا أو اتقاء لشر كلام الناس وأحاديثهم.
هُنّ ضحايا التنمر
نور باجابر فتاة حضرمية عاشت حياتها في مدينة عدن، وقد انتقلت مؤخرًا للاستقرار بالمكلا. سمعت ذات يوم عن انعقاد دورة موسيقية للنساء، فانضمت للدورة وهي سعيدة جدًا رغبة منها في خوض هذا المجال، لكنها تفاجأت بحملة مسعورة في مواقع التواصل الاجتماعي(فيسبوك تحديدا)؛ حملة تُشهّر بكل الفتيات اللواتي التحقن بهذه الدورة، وتتداول صورهن وتصفهن بأقذع الصفات، وكأنّهن ارتكبن جرمًا خطيرًا! تقول نور عن الحملة: “نظرة المجتمع للأسف سلبية جدا وعدائية، وقد هوجمنا بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي بطريقة سيئة جدًا : قذف، شتم، تشهير، والموضوع لا يستحق كل هذا!”.
نور لم يكن لديها أيّ اهتمام بالموسيقى كما حدّثتنا، لكن رغبتها في تعلّم شيء جديد جعلتها تقرّر الانضمام، وهنا كانت المفاجأة؛ إذ التحقت بالدورة وهي لا تعلم شيئًا عن الآلات الموسيقية، ولكنها أكملت الدورة عاشقة لآلة الكمان.
تضيف: “ذهبتُ للتسجيل فقط لأني شعرت بأن ثمة شيئا جديدا وغير اعتيادي أرغب بخوض غماره. كثير منهن يجدن العزف على آلات موسيقية، لكن قليل منهن يتقنّ قراءة النوتة الموسيقية، وقد شجّعتني عائلتي على دخول هذا المجال، وأحببت أن أطوّر نفسي في الصوتيات؛ إذ تعلّمنا أخذ النفس بالطريقة الصحيحة ومخارج الصوتيات السليمة والقدرة على التنفس وقت الكلام، فهذا الشيء جذبني كثيرًا؛ إذ سيساعدني في يوم من الأيام لأكون مذيعة أو مقدمة برامج تلفزيونية متمكنة”.
لم تكن حملة التنمّر قادرة على فتّ عضد نور وثنيها عن إكمال مسيرتها الفنية، بل أكّدت أنها مستمرة ولن تتوقف، وقد عاتبت نور مكتب وزارة الثقافة بساحل حضرموت على عدم دفاعه عنهن قائلة: “لن أتراجع، وسأظلّ مستمرة في هذا المجال، وأعاتب مكتب وزارة الثقافة على أنه لم يُصدر أي بيان رسمي للدفاع عنا ليوقفوا تلك الحملة التي شُنّت ضدنا، فنحن في حضرموت والمرأة الحضرمية لها احترامها.
تمنيت أن تكمل كل البنات الدورة، يكفي أن هذا المجال الوحيد الذي نقدر أن نرفّه فيه عن أنفسنا”. وحينما سألناها عن سبب انسحاب بعض الفتيات من الدورة، قالت: “بعض البنات خُفن بعد الهجوم الذي طالنا على مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلبنا استمرّ إلى نهاية الدورة.
لم ينسحب إلا ثلاث أو اثنتان من الفتيات تقريبا، ولم ينسحبن بسبب الضجة التي حدثت في مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن بسبب ضغوطات أخرى”.
وتؤكد شيماء البريكي -وهي واحدة من الفتيات اللواتي اشتركن في التدريب- أنها تهتمّ بالفن والموسيقى وتراهما جزءا لا يتجزأ من الحياة. تقول: “المجتمع يرى أن المرأة يجب عليها أن لا تخوض المجال الفني بسبب كونها عورة، ولا يحق لها أن تتعلم الموسيقى. مجتمع ذكوري متحيز لنفسه!”.
تضيف شيماء أن الهجمة التي طالتها وزميلاتها في مواقع التواصل الاجتماعي سيئة للغاية وليست مسوّغة، لكنها قابلتها بالتجاهل بحسب قولها، وزادت: “الأصدقاء الذين حولي هم مَن شجّعوني على إكمال التدريب على الرغم مما حصل. الأهل ليسوا مشجعين وليسوا معترضين في الآن نفسه. كلّ ما في الأمر أنهم يرون الموسيقى، كما يراها كثير من مجتمعنا، غير جديرة بالتعلم”.
مجتمع رافض
في دراسة ميدانية أجرتها معدّة المادة استخدمت فيها الاستبانة الإلكترونية بواسطة أدوات غوغل على 40 شخصا، لتقييم نظرة المجتمع عن دخول المرأة عالم الفن والموسيقى، تبين الاستبانة أن 64.5% لا يؤيدون دخول المرأة للمجال الفني سواء أكان غناء أم تمثيلًا أم عزفًا على الآلات الموسيقية، فيما أجاب 35.5% بالتأييد، واللافت في الأمر أن 61.3% ممن أجاب بالرفض كانوا من الإناث.
وجاء في مقدمة الأسباب لرفض دخول المرأة للمجال الفني -بحسب الاستبانة- تحريم الدين لذلك بنسبة 68.2%، فيما قرّر 13.6% أن العادات والتقاليد المحليّة هي ما تمنع دخول المرأة لهذا المجال؛ غير أن نِسبًا صغيرة متفاوتة رأت أن دخول المرأة لعالم الفن
مرحب به شريطة أن تلتزم الاحتشام.
فنانة مع سبق الإصرار!
وبعيدًا عن الاستبانة ونسبها، قرّرت سمية المفلحي -والمشهورة بـ”سوم”-أن لا تلقي بالًا للمجتمع من حولها وأن تستغل الهِبة الربانية التي تمتلكها، فأنشأت لها قناة على اليوتيوب تعرض فيها أعمالها الغنائية والفنية التي اتخذت منحًى احترافيًا(مصدر دخل).
تقول سوم: “أول مَن اكتشف موهبتي هم أهلي، خصوصًا أبي رحمه الله وأختي الكبرى، ثم بدأت أولى خطوات مشواري الفني قبل ٧ سنوات عندما كنتُ في الصف التاسع بأدائي لأعمال بسيطة جدًا مثل إلقاء شعر أو خاطرة وغناء زفات لصديقات مقربات من باب التجربة فقط، بعدها قُمت بتسجيل أعمال فنية لي في الإستوديوهات”.
ولحسن حظ سُمية أن عائلتها لا تمانع من احترافها الغناء، فلا مشكلة لديها في الإفصاح عن اسمها، ولكنها اختارت “سوم” اسما فنيّا، توضح ذلك قائلة: “أنا من اخترت “سوم” اسما بسيطا لأتعامل مهنيًا به ويحفظه الناس بسهولة، واستخدمته في وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في التعامل مع الناس شخصيًا فيعرفوني به، لكن لا أمانع إطلاقًا من ذكر اسمي الشخصي، بالعكس في الوقت الحالي أصبح كثيرون يعرفون من هي سوم”.
وتزيد: “الفنّ الحضرمي موجود منذ قديم الزمان، وهناك فنانات كبيرات وقديرات في المجال الفني، وأنا قصرت عملي الفني في الأفراح والمناسبات على التسجيلات الصوتية، ولا أظهر مباشرة على المسرح”.
وعن نظرة المجتمع للمرأة التي تغني تقول سوم: “تتجاوز المرأة النظرة بتشجيع أهلها ومحبّيها، فإن رأت تشجيعًا ممن حولها، فستخطو خطوات صحيحة في إبراز موهبتها بشكل محترم وبمشاركاتها بأعمال فنية تخدم الوطن”.
أفكار متناقضة
يرفض أبو الوليد (رجل من حضرموت) أن تدخل المرأة في المجال الفني؛ فهو ليس للمرأة بحسب تعبيره، وخصوصا في المجتمع الحضرمي.
يقول: “هناك جهات دخيلة على مجتمعنا تريد جرّ المرأة إلى هذا المجال مستغلين الوضع الاقتصادي للناس”.
وزاد: “تبقى حضرموت بخصوصيتها المحافظة التي تتميز بها عن باقي محافظات الجمهورية وشبه الجزيرة العربية”. وعلى العكس منه تمامًا تؤمن شروق عمر (امرأة من حضرموت) أن على المجتمع أن يعي أن عجلة المساواة بين المرأة والرجل في العالم في طريقها إلى حضرموت لا محالة، وأن التغيير من سمات المجتمعات المدنية، فتقول: “على المجتمع مساندة المرأة خصوصًا الرجل، إما أن يساعدها ويدعمها وتحصل الشراكة بينهما، وإلا فسوف تخطو المرأة خطواتها وحدها في اتجاه تحقيق المساواة والعدل”.
تاريخ ثقافي وفني
يرحب محمد أنور عبد العزيز (رئيس جمعية فناني حضرموت) بالدورة التي أقامها مكتب وزارة الثقافة، والتي أثارت جدلًا في المجتمع، ويرى أن هذا التدريب يحتاجه الوسط الفني والثقافي لرفد الساحة الفنية بدماء جديدة شابة لمواصلة السير، بعد إغلاق معهد محمد جمعة خان عام 1964 لأسباب سياسية وهو الذي كان يرفد الساحة الفنية بعازفين شباب.
يحكي محمد أنور عبد العزيز جانبًا من تاريخ حضرموت الفني والثقافي قائلًا: “في عام 1983 كان عدد عازفي الكمان داخل المكلا فقط نحو 43 عازفًا، لكنه انخفض إلى أقل من تسعة أو ثمانية في السنوات الأخيرة، وهذا مؤشر خطير لتدهور الحركة الفنية والثقافية الحضرمية”.
ويضيف: “تراث الدولة لا يستطيع حمل رايته غير أبنائه، وعزوف الشباب وعدم تدريبهم على الآلات الموسيقية سيخلق مشكلة ثانية في حفظ التراث وتطويره، فالأغنية تحتاج إلى ملحّنين وموزعين وعازفين، كيف لنا تلبية هذه المتطلبات من دون دماء شابة جديدة؟!”.
واستغربت شيماء بن عثمان (ناشطة حقوقية وثقافية) ردة الفعل الحادة لدورة قراءة النوتة الموسيقية للفتيات، ووصفت التعليقات التي طالت شرف الفتيات بأنها مخالفة لفطرة المجتمع الحضرمي المسالم.
تقول شيماء: “بصراحة عندما شاهدت صور الدورة التدريبية في مواقع التواصل الاجتماعي سعدت كثيرًا، وقلت: أخيرا هناك اهتمام بالجانب الموسيقي من السلطة المحلية بالمحافظة”، وتصف بن عثمان الحملة المضادة على مواقع التواصل الاجتماعي بأنها تصرفات طفولية لأناس متخفّين خلف حسابات وهمية، لكن ما أزعجها حقًا هو ظهور إعلاميين مناصرين لهذه الحملة، على الرغم من أنه يجب عليهم أن يكونوا الواجهة الإيجابية للمجتمع، وأن يدافعوا عن الحراك الثقافي بحسب تعبيرها.
وعن حق المرأة في اختيار توجهاتها في الحياة من دون وصاية تقول شيماء: “الفكرة هي أنه ليس هناك مثال موحّد للمرأة، الحياة قرارات واختيارات، فإذا اختارت المرأة أن تدرس وتعمل، فهذا خيارها، وإن اختارت أن تكون ربة بيت وتعتني بأولادها، فهو قرارها”.
وتضيف: “المجتمعات الأبوية تحاول فرض وصايتها على المرأة، وللأسف مجتمعنا لا يفرض وصايته على المرأة فقط، بل حتى على الشباب وخصوصا صغار السن، فالأهل يحاولون تأطير أبنائهم في شكل معين، لكن الضغط الأكبر يكون على المرأة”.
مبادرة “مُميّز” الفنية
وأسّست شيماء بن عثمان مع ستة من الشباب بمدينة المكلا مبادرة فنية ثقافية تحمل اسم “مميز”، تتمثل رؤيتها في قيادة حركة فنية تُسهم في إحياء حضرموت بوصفها إحدى مراكز الإبداع والفن في المنطقة العربية، من خلال العمل على إحياء المشهد الفني والثقافي عبر مشاريع ونشاطات فنية مختلفة تضم دورات ومعارض فنية، وعروض الأداء، وموسيقى، وعروض أفلام، ومحاورات مع فنانين، مع السعي إلى إقامة كثير من الفعاليات الفنية التي تناسب جميع فئات المجتمع.
وأطلقت المبادرة أول مشاريعها “فنُّنا سلام” بتدريب 30 موهبة شابة من الجنسين في كيفية استخدام موهبتهم الفنية لمناصرة قضايا مجتمعية. فهل ستنجح مبادرة مميز وغيرها من المبادرات في خلق حراك ثقافي يسمح للمرأة أن تتعاطى الفن حالةً شعوريةً ولغة عالمية من دون أن تجد محظورات المجتمع طريقًا لتحطيم أحلامها؟!
* تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر الذي ينفذه مركز الإعلام الثقافي CMC.. وتم نشر المادة على موقع جولدن نيوز:
اضف تعليقا